Search me

Friday, May 20, 2011

المجتمع المدني في مواجهة عنف الدولة


ليس مستغربا ان قام علماء السياسه بتسمية الدوله بأداة "صنع الحرب" وحاولو ايجاد البديل عن اداة صنع الحرب بأداة "صنع السلام" فانصب بحثهم عن بدائل مجتمعيه تحمل قيما تختلف عن قيم الدوله اياً كانت. ولا يعني البحث عن بديل اداة صنع الحرب بتفكيك الدوله و التخلي عنها، فقد ثبت بأن شكل الدوله الكلاسيكي او ماعرف باسم "ويستفيليا" هو شكل مقاوم للتغيير حتى الان على الاقل. وعليه فقد انصب الجهد على تاسيس المجتمع المدني ومؤسساته من اشكال الجمعيات والمنظمات الأهليه الى النقابات وأدوات الرقابه المستقله عن الدوله. وعند ذكر المجتمع المدني فليس المقصود فقط تلك المؤسسات بل ايضا القيم والاخلاق والافكارو الحملات الطوعية والمنظمه التي تملأ الفراغ بين الدولة والمواطنين وتحاول لجم سطوة الدولة على الحياة العامة.

وبالرجوع الى بدايات تأسيس الدوله نجد بانها قامت نتيجة حروب بين فئات أو مجموعات أو اقليات وحتى عائلات وسلالات متصارعه لتامين حدود آمنه يمكن فيها اقامة نوع من الحكم. الا ان المتمعن بما ترمي اليه كلمة "آمنه" يلحظ كما اسلفنا بأن تحقيق الامن اعتمد على آلة الحرب والدمار التي تمثل العضو الحيوي لبقاء أية دولة سواء في مواجهة عدوان خارجي اوتهديد داخلي. ولعل من السخرية القول ان القتل والدمار والحرب هو شرط اساسي للحياة ولكن ليس أية حياة، بل حياة الدولة وبقائها. ولعل من اهم ما نتج عن حركة بناء الدول وخصوصا في القرن السابع عشر والذي شهد تشكل الدول في اوروبا هو عملية فصل العام عن الخاص. بمعنى اخر ان اموال الدولة هي ممتلكات عامة وليست من اموال الحاكم. فأصبح هناك ملكية عامة للدولة والشعب وملكية خاصة هي مقتنيات الحاكم. وقد ادى هذا الفصل الى اعادة تشكيل مفهوم سيادة الدولة في اوروبا والتي لم تعد مستمدة من سيادة الحاكم وانما من المواطنة. وتتم تتويج هذا التحول في القرن التاسع عشر بالثورة الفرنسية والانجليزية.

إن تلك السمة العنفية المميزة للدولة تظهر وتختفي بين الحين والاخر كلما تذرعت النخبة الحاكمة سواء في الملكيات او الديكتاتوريات وحتى الجمهوريات الديموقراطيه بذريعة السيادة وحماية السيادة. وبالرغم من ان السيادة في مفهمومها تختلف من دولة الى اخرى بما قد تعنيه من سيادة "المكان" الى سيادة "القرار" الا انها كانت ومازالت سببا رئيسيا لبدء الحروب أو للقمع الداخلي. فمثلا في اسرائيل مفهوم السيادة يمتد ليشمل الاراضي المحتلة في فلسطين والجولان الى ان تشمل قطاع غزة بالرغم من ان اسرائيل تدعي بانها انسحبت من القطاع. لذلك فالسيادة الاسرائيليه كما انها إحتلالية إحلاليه الا أنها كذلك ترتكز على بعد أمني. أما بالنسبة للولايات المتحدة فسيادتها المكانية عابرة للقارات وترتبط بمصالحها أينما تواجدت في فعل يعكس الفكر الامبراطوري المتغول. ومن المهم الاشارة هنا ان السيادة في مفهومها العربي الرسمي تشير دائما الى سيادة المكان وليس سيادة القرار. ولذلك نسمع في الآونة الاخيره ممن مازالت عقولهم تراوح في الفكر الديكتاتوري في تونس ومصر وحتى في الدول الاخرى التي تعاني ارهاصات التغيير كلمة "استعادة هيبة الدولة" والتي تحمل كل معاني الخطر التي تؤول الى انتكاسة في الحراك التحرري والعودة الى عنفية الدولة المرتكزة على سيادة المكان دون القرار. ولكن في الفكر الرسمي العربي وفي فكر المثقف الديكتاتور فإن رمزية "استعادة الهيبة" هي السيادة المطلقة المصحوبة بقبضة من نار وحديد والتي ترمي كل من يعتقد بتأسيس مجتمع مدني خارج إطار الدولة – لملأ الفراغ الموجود بين المواطن والدولة وتعزيز دور آداة السلام – بانه يهدد سيادة الدولة وينتقص من هيبتها ولذلك فإن الانكفاء الى الداخل ومحاربة اشكال المجتمع المدني خصوصا اذا كانت له امتدادات عابرة للحدود هي من مهام الدولة العنفية .

الا ان السؤال الاكثر جدلية بين منظري علوم السياسة يرتبط بحدين مهمين تكفي الاشارة لهما هنا دون الخوض بالتفصيل. وهما "البنية" و "العامل". فالبنبة تعني مؤسسات الدولة بكافة اشكالها وكذلك الذراع القمعي للدولة من اجهزة أمن ومخابرات وقوات مكافحة شغب او جيش. والعامل هو الاشخاص الذين يتولون ادارة هذه البنية وصنع سياسات الدولة سواء كان تولوها بطريقة الانتخاب الحر أو التوريث أو الانقلاب. فعند دراسة احوال المنطقة العربية وما تحوية من تقلبات حادة نجد ان الدولة العربيه في شقيها البنيوي والعامل متشابهة الى درجة التطابق في قمعيتها للتظاهرات وللحراك الشعبي وفي نظرتها الى تهديد المجتمع المدني لهيبة الدولة وسيادتها. وهنا من المهم جدا الادراك بأنه كما ذكرت سابقا بان السيادة في الدولة العربية من المحيط الى الخليج لم ترق بعد الى مفهوم السيادة الذي ساد اوروبا في القرن السابع عشر والذي نتج عنه فصل العام عن الخاص ومن ثم تشكيل المواطنه نتيجة للثورتين الفرنسيه والانجليزيه في القرن التاسع عشر. لذلك إنه من العدل بمكان القول بان المترادفات التاليه في الخطاب الرسمي العربي تشير الى كيان واحد كالتالي: السيادة المكانية >هيبة الدولة>الحاكم. ولذلك هي تسارع الى القمع بوحشية منقطعة النظير مستخدمة اساليب مستنسخة في دول اخرى بغض النظر عن نجاعتها متذرعة بمترادفات عدة كلها في النهاية تهدف الى حماية سيادة الحاكم وزمرته لان هناك خلط بين السيادة وبين الحكم.

ولكن قد يتذرع قائل بأنه حتى الدول الديموقراطية من مثل الولايات المتحدة او بريطانيا وفرنسا تمارس القمع ايضا تحت مسمى السيادة وهذا يفسر تغول الولايات المتحدة وامتداد سيادتها العابرة للقارات لتكون اكثر وحشية في مناطق الثروات مثل العراق وافغانستان وحاليا ليبيا. وفيما يتعلق بعمليات مكافحة الارهاب وقصف باكستان واليمن فإن السيادة الايدولوجية هي المحرك والتي تتمثل بنظام رأسمالي ليبرالي اصبح اقرب الى مايشبه الديانة الجديدة والتي تحاول الولايات المتحده نشرها. ولكن هناك القوة الناعمة التي تستخدمها هذه الدول لفرض سيادتها من مثل المعونات المالية ونقل التكنولوجيا والعلوم. وحتى في التظاهرات الداخلية تلجأ هذه الدول الى عمليات قمع ووحشية لاتتناسب مع تشدقها بالديموقراطية ودعمها للمجتمع المدني الحر. وهي في هذه الحلات تدافع عن سيادة القرار. فعلى سبيل المثال الولايات المتحدة و الدول الغربية تقمع المتظاهرين المعارضين للعولمة الراسمالية في اشارة للدفاع عن سيادة القرار بقيادة العالم نحو النظام الرأسمالي الليبرالي. وحتى بالنسبة لاسرائيل فإن سيادتها الامنية على فلسطين المحتلة والجولان تبررها بالقمع المتواصل لاي تحركات تحرريه. ولعل ذروة الوحشية الاسرائيليه تحققت عند الاعتداء على نشطاء المجتمع المدني الدولي في المياة الدولية عام 2010 وقتل 9 منهم. حيث بررت اسرائيل ذلك بأنها دولة ديموقراطية تسمح بالراي والراي الاخر ولكنها لاتسمح بالتعدي على سيادتها بل وتمادت في بالتبرير لوحشيتها بربط نشطاء المجتمع المدني بالارهاب في سابقة تفتح الباب لاستخدام الارهاب كذريعة للقمع والقتل. واذا مارجعنا بذاكرتنا حتى وقت قصير وحادثة اغتيال ناشط السلام الايطالي فيتوريو اريغوني يوم 14 ابريل 2011 نجد بان المقصود منها بغض النظر عن الطرف الذي يقف خلفها هو ليس فقط قتل نشطاء المجتمع المدني بل ايضا الفكر والقيم التي يمثلها المجمتع المدني.

لعل المفارقة الواضحة بين هذه الامثلة ومايدور في الوطن العربي من منطلق السيادة وهيبة الدولة بأن الغرب الديموقراطي يدافع عن سيادة مكانية وقرارية بحته. اما بالنسبة للانظمة العربيه فكما ذكرت تم دمج سيادة المكان – حيث لايوجد في الدولة العربيه سيادة قرار كامل – وهيبة الدولة من اجل تبرير الدفاع عن سيادة الحاكم ليس اكثر. فما نراه في سوريا هو ليس تعرض لسيادة الدولة على حيزها المكاني والسعي لتفتيتها ولكن هو الاعتراض على سيادة طائفة معينة على الدولة بمقدراتها وتسخير الدولة لخدمة الطائفة وقمع الاخر في حالة تشبة اوضاع اوروبا قبل القرن السابع عشر. ومايحدث في ليبيا هو نفس الشيء. ولعل المثل العربي القائل "خذو الحكمة من أفواه المجانين" كان من ابلغ مانطق به معمر القذافي عندما تسائل في خطابه الاول "من انتم؟ من انتم؟". فبمعرفته ان في ليبيا لا يوجد مجتمع مدني على شكل مؤسسات وجمعيات حقيقة تملْأ الفراغ القائم بين الشعب والدوله ولاحتى افكار وقيم للمجتمع المدني تحملها عقول وقلوب ابناء الشعب ، فآلة صنع الحرب التي أوجدها القذافي هي كمثيلتها في سوريا اقوى من آلة صنع السلام. الا انهما كسائر الزعماء العرب لم يدركو بأن آلة صنع السلام هي ايضا قيم واخلاق ومباديء ونقاشات وجدل فكري تنتقل من دولة الى اخرى ومن مكان الى اخر دون الاعتراف بسيادة الحاكم او الحدود ولكنها تنتظر لحظة مخاض لتنعكس فعلا على ارض الواقع.

وليس الحال في اليمن اكثر اختلافا حيث نشهد مخاضا حقيقيا لتشكل دولة مدنية بكل ماتحمل الكلمة من معنى. فالبرغم من النظام القمعي في اليمن وسيادة القبائل الا ان مجتمعا مدنيا تشكل في ساحات التغيير مستلهما من تجربة مصر بل وتفوق عليها. فهناك تظهر القيم الحقيقيه التي يمثلها المجتمع المدني كآداة للسلام والحراك الشعبي العفوي السلمي والتي ترفض الانخراط في لعبة الدولة التي تمثل آداة الحرب من خلال الولوج معها في عملية قتل وقتل مضاد. وعليه فإن علي عبدالله صالح كسائر الزعماء العرب يشعر بأن سيادته على الدولة مهددة الا انه يتنكر ويختبئ خلف سيادة الدولة.

اخيرا، نستنتج بان الدولة في صفاتها الوراثية يكمن العنف كأداة صنع الحرب فلا فرق بين دولة ديموقراطية واخرى ديكتاتوريه عندما تدافع عن سيادتها الا درجة العنف المستخدمة وسرعة بروزها للسطح وهنا تحديدا يكمن الجدل بين البناء والعامل وايهما يؤثر بالاخر كما اشرت سالفا بأختصار. فماهو عنف مفرط بمقاييس اوروبية او امريكيه قد يكون تسامحا في مقاييس الديكتاتوريات العربيه. ولكن عندما يتعلق الامر بسيادة القرار للدولة المهيمنة كالولايات المتحدة مثلا فإن العنف يتصاعد والقتل والدمار يصبح اكثر وضوحا. اما في الدولة العربية فإن سيادة المكان وسيادة الحاكم على المكان ،لا سيادة القرار، هي التي تحفز الدولة العنفية على القمع. ولذلك فأن المجتمع المدني بمؤسساته وافكاره وقيمه المتشكله خارج جسم الدولة القمعية بقدر مايمثل تهديدا لألة صنع الحرب فهو آلة صنع السلام التي تحدث التغيير والتي ستعمل على فصل سيادة الدولة عن سيادة الحاكم لتحقيق المواطنة حتى تنتقل الدولة العربيه الى مرحلة مابعد القرن السابع عشر على الاقل ومن بعدها يعمل المجتمع المدني على تقييد عنف الدولة ضمن اطر اخلاقية متعارف عليها لتتحقق المواطنة الفعلية التي تقوم عليها سيادة الدولة.

وفي المنحى الاخر تكمن خطورة القاء تهمة الارهاب على نشطاء المجتمع المدني كما فعلت اسرائيل وليبيا واليمن وسوريا. فعمليا وضع المجتمع المدني في مقابل الارهاب هو وضع المجتمع المدني في مواجهة سطوة الدولة التي تملك ادوات صنع الحرب والقتل ومايعنيه ذلك من تشريع قمع نشطاء المجتمع المدني ومنح رخصه لقتلهم.

No comments: