Search me

Saturday, October 29, 2011

مبدأ المسؤولية في الحماية: بين حقوق الإنسان المهدورة ومصالح الدول المصانة





مع إعلان الناتو إنهاء عملياته لحماية المدنيين في 31/10/2011 تكون بذلك الحرب في ليبيا قد وضعت أوزارها ولو من الناحية الإعلامية على الاقل. فالناتو سيعمل على تقليص عملياته مع الإبقاء على جهوزية قواته لإحتمال التدخل بتوجيه ضربات إن إقتضت حاجة حماية المدنيين. وكذلك سيبقي على عمليات المراقبه والرصد والتجسس وجمع المعلومات فوق الأراضي الليبيه لأستخدامات عسكريه.

فكما هو معلوم بأن مجلس الامن قد صوت على عمليات الناتو والتي انطلقت في مارس 2011 بهدف حماية المدنيين وبالإستفاده من البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة القاضي بتطبيق إجراءات ضرورية ومن ضمنها عسكرية ضد أي طرف يهدد الأمن والسلام العالميين. وجاء القرارأيضاً بالاستفادة من مبدأ التدخل الانساني "Humanitarian Intervention " الذي يهدف إلى حماية المدنيين من أعمال القتل وإنتهاك حقوق الإنسان وجرائم الإبادة والتطهير العرقي الممنهجه من خلال الطرق الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية والسياسية ثم باللجوء الى العمل العسكري عن طريق مجلس الأمن. إلا أن هذا المبدأ تم إعادة تسميته بإسم مسؤولية الحماية "Responsibility to Protect" وتبنيه في الامم المتحدة عام 2005. وقد تم إعادة التسمية لتبيان وقوع المسؤولية في حماية المدنيين على الدولة الأم أولاً ثم بعد ذلك تصبح مسؤولية المجتمع الدولي عندما تكون الدولة هي من يرتكب تلك الجرائم.

ألامر الآخر الذي دعا إلى إعادة التسمية هو التخلص من كلمة "التدخل" والتي تستثير جدلاً سياسيا بين مبدأ سيادة الدولة الذي صادقت علية الامم المتحدة وتدعو إلى إحترامه و يشكل أساس القانون الدولي والعلاقات الدولية وبين مبدأ حقوق الانسان الجوهري العابر للحدود والذي لايعترف بسيادة الدول.

ولأن كثيراً من المنظريين والسياسيين الملتزمين يضعون أهمية قصوى لحقوق الانسان وإحترامها فإن مبدأ سيادة الدولة بشكله الكلاسيكي والذي يتضمن بأن (الدول- الحكومات) لها حق التصرف ضمن أراضيها ومع مواطنيها بالطريقة التي ترتأيها مناسبة بالاعتماد على مبدأ السيادة قد تم اسقاطة لصالح هدف أسمى وهو حماية حقوق الانسان. وبذلك تم نقل مسؤولية الحماية والتي تقع في الأساس على عاتق الدولة التي تقمع مواطنيها إلى جهات خارج سيادة الدولة من مثل الامم المتحدة أومؤسسات المجتمع المدني.

ومبدأ سيادة الدولة الكلاسيكي يعيد إلى أذهاننا الخطاب الأول لمعمر القذافي عندما أزبد وأرغى وساق من الأمثلة على سيادة الدولة في إختيار طريقة التعامل مع مواطنيها دون الإكتراث لحقوق الإنسان بذكره لقصف يلتسين لمبنى البرلمان الروسي وبقمع الصين للمظاهرات الطلابية عام 1989 في ساحة تيانامين والتي وصلت إلى دهس الطلبه بالدبابات. فهذا الخطاب تم توظيفه مع عملية الحشد العسكري لإقتحام بنغازي من أجل إستصدار القرار 1973 وبدء عمليات الناتو على ليبيا. إلا أن الكثير من تقارير منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس واتش تحدد بأنه لم يثبت وجود عمليات قتل إو إنتهاك ممنهج لحقوق الانسان من قوات القذافي. ويبدو بأنه قد فات تلك المنظمتين تواصل القمع الممنهج لمدة 42 عاما هي سنين عمر حكم القذافي والتي إمتازت بتصدير الإرهاب والسجون السرية والتصفية الجسدية للمعارضين.

ولعل من المهم التذكير هنا بأن مسؤولية الحماية تنص على حماية المدنيين بكل الطرق اللازمه ولكنها – أي مسؤولية الحماية – لاتتعرض لتغيير النظام في البلد المستهدف وهذا يعتبر من مناطق الضعف المسكوت عنها في هذا المبدأ. حيث أنه لايمكن حماية المدنيين من إنتهاكات ممنهجه أو عمليات إباده جماعية مع الإبقاء على نظام الحكم الذي يمارس هذه العمليات. لذلك كان الإصرار من قبل الناتو ومجلس الأمن بان هدفهم ليس الإطاحة بمعمر القذافي ولكن حماية المدنيين. إلا أن الخبير في القانون الدولي ريتشارد فوك يرى بان قوات الناتو حادت عن نص القرار وأنخرطت في أعمال قتالية الى جانب الثوار أدت في النهاية إلى إستهداف القذافي شخصيا.

هناك خلل بطريقة تعامل مجلس الأمن مع مبدأ مسؤولية الحماية. فالتدرج بالاجراءات أو تطبيق المبدأ من عدمه يبدو إنتقائيا لحد كبير. ففي عام 1995 وعلى وقع حرب كوسوفو حدد توني بلير والذي كان زعيما لحزب العمال حينها خمس نقاط لتفعيل مبدأ مسؤولية الحماية أو التدخل الإنساني كما كان يسمى ولعل أهمها النقطة الأخيره والتي تقول "هل لنا مصالح وطنية تحثنا على التدخل؟". فكما هو واضح فإن لمجلس الأمن باعضائه مصلحة للتدخل السريع في ليبيا تكمن في ثروات البلد النفطية بالاضافة الى مكاسب جيوسياسيه كون ليبيا تملك أطول شواطئ مطله على بوابات أوروبا الخلفية ولايمكن ترك هذا البلد مرتعاً للحركات الاسلامية المتشددة ولاممرا للهجره غير الشرعيه والتي قد يستغلها المتشددون للتسلل إلى أوروبا.

إن فضائحية التعامل المغلوط مع مبدأ مسؤولية الحماية تجد نفسها في كيفية التعامل مع إنتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني بشكل ممنهج ويومي من خلال الإعتقالات التعسفيه وتقييد حرية الحركة و القتل المستهدف والتهجير القسري وهدم القرى والبيوت إلى الحرب على غزة عام 2008 والحصار القاتل المفروض من عام 2007. فبالرغم من مئات التقارير الدولية التي تتهم اسرائيل بانتهاك حقوق الانسان وجرائم ضد الانسانية وآخرها تقرير غولدستون إلا أن مبدأ مسؤولية الحماية ظل مغيبا في الحالة الفلسطينية وذلك بالإعتماد على أنه ليس من الممكن إثبات أن الإنتهاكات الاسرائيلية أو جرائمها هي عمل ممنهج. وبذكر تقرير غولدستون فإنه من الضروري التنبه بأن التقرير إتهم بصيغته الإنجليزيه حركة حماس بإرتكاب جرائم حرب في حين إتهم إسرائيل بممارسة أعمال قد ترقى لجرائم حرب. ولذلك عندما تراجع غولدستون عن تقريره كان أول ماصرح به أنه لايوجد دليل على أن إستخدام الجنود الإسرائيليين دروعاً بشريه هو عمل ممنهج ولاسياسية قتل المدنيين بالاستهداف خلال الحرب كانت عملاً ممنهجاً.

وأيضا الحصانة التي تتمتع بها اسرائيل والصورة التي رسمتها لنفسها بانها دولة ديموقراطية تجعل من المستبعد تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية لدرجة بان زيارة موقع المركز العالمي لمسؤولية الحماية على الانترنت تفضح نفاقاً سياسيا وأخلاقيا عندما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين. فموقع المركز على الإنترنت يحوي خريطة العالم مؤشرٌ عليها الدول التي تستوجب شعوبها الحماية لأنهم معرضون لمخاطر جسيمه فنجد مثلاً سوريا وليبيا واليمن والسودان ولكن لانجد غزة أو الضفة الغربية.

ومن المفارقات الأخرى في تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية أنه بالرغم من تمادي نظامي الحكم في سوريا واليمن بالإيغال في دماء شعبيهما وتفننهما في إستخدام أساليب القتل من شبيحة وبلطجية ودبابات الى قصف بالطائرات وبروز سمة القمع الممنهج الذي يرقى الى إنتهاك حقوق الانسان كما تذكر منظمة العفو الدولية في تقاريرها فإن هذا لايبدو بأنه يسترعي إنتباه مجلس الأمن لإستثارة البند السابع أو تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية. ويسوق الكثيرون تعليلات لعدم جدية مجلس الأمن والدول المهيمنة عليه مثل الولايات المتحده وبريطانيا وفرنسا للتصرف بنفس الطريقة التي تعاملوا معها في الوضع الليبي والتي إتسمت بحرق المراحل بغية تطبيق البند السابع ومبدأ حماية المدنيين وفرض منطقة حظر طيران بالرغم من أن الطيران الحربي الليبي لم يكن فاعلاً ولم تكن حتى لديه الدقه في التصويب.

ففي حالة سوريا مثلا فشل مجلس الأمن بإدانة نظام سوريا نتيجة تصويت الصين وروسيا ضد القرار. وهذا ليس بالجديد على الدولتين اللتان لاتثقان بنوايا مجلس الأمن وآلية صنع القرارفيه وتنظران إلى أن قرارات هذا المجلس خاضعه لدكتاتورية الدول العظمى والتي تتنافس مع روسيا والصين على مكتسبات جيوسياسية وثروات معدنية ونفطية. ففي عام 2007 صوتت روسيا والصين ضد قرار يدين حكومة بورما لإنتهاكها حقوق الإنسان في قمعها للمظاهرات هناك والتي أدت إلى مقتل الآلاف ومنهم رهبان وإعتبرتا أن الأمر هو مجرد شأن بورمي داخلي لايهدد الأمن ولاالسلام العالميين بالرغم من الانتهاك الممنهج لحقوق الانسان على يد الحكم العسكري هناك.

وبالرغم من فرض مجلس قرارات تحظر توريد الأسلحه لسوريا وتعزز العقوبات الاقتصادية وتمنع سفر رؤوس النظام إلا أنها تظل اجراءات قاصرة وبطيئة لاترقى الى مستوى حماية المدنيين. ونحن الان نرقب الاجتماع القادم لمجلس الأمن بدعوة من فرنسا. فهل سيطبق مبدأ مسؤولية الحماية أم أنه سيبقى رهين مصالح دولية. كذلك إن اللجوء إلى الطرق الدبلوماسية في تطبيق المبدأغير محدد بسقف زمني وان تم تحديده فإنه يستغل بالعاده من النظام للإستمرار في عمليات القتل. ومن المستغرب بأنه لماذا لايتم إستصدار مذكرات إعتقال من المحكمة الجنائية بحق القيادات السورية.

من المعروف بأن نظام الحكم في سوريا حافظ على أكثر الحدود هدوءاً وأمنا مع إسرائيل منذ حرب اكتوير 1973 بالرغم من إدعائه بأنه نظام ممانعه فليس من الحكمة التدخل في هذا البلد والإطاحة بنظامه الممانع لأي عمل مقاوم من أراضيه باتجاه إسرائيل. كذلك هناك توازن حزب الله – إسرائيل المبني على توعد حزب الله بانه لن يسمح بإنهيار نظام الأسد دون أن يذيق اسرائيل مرارة هذا الإنهيار بصواريخه. فسورياالأسد تعتبر الرئة التي يتنفس منها حزب الله وبسقوطها فإن الحزب سيتلقى ضربة كبيره خصوصا إذا ما آلت فيها مقاليد الحكم إلى نظام مهادن.

أما في الحالة اليمينة فحدث ولا حرج فلا يمكن الإدعاء بأن هناك تباطؤ بشأن إتخاذ إجراءات رادعة ضد حليف واشنطن في مكافحة الإرهاب بل كان هناك تجاهل كامل للوضع اليميني من المجتمع الدولي إلى أن ظهرت بعض الدعوات من الإدارة الأمريكية بضرورة نقل صالح للسلطة بشكل فوري. وهذا الدعوة فارغة من أي مؤشرات بضرورة ملاحقة صالح قانونيا بتهم جرائم ضد الانسانية. وهذه الدعوة جاءت مشفوعه بقرار مجلس الأمن بمنح صالح 30 يوما لتصويب الأوضاع ليعود بعدها مجلس الأمن لدراسة الوضع اليمني. وهنا نرى كما أسلفت بان صالح يستغل مهلة المسعى الدبلوماسي للتنكيل باليمنيين والإنتقام منهم وكذلك ليس هناك مايبرر هذه المهله والتلكؤ أيضاً في عرض ملف صالح على محكمة الجنايات الدولية بدل من منحه 30 يوم.

ولايخفى على أحد خوف المجتمع الدولي من سيطرة الإسلاميين أو القاعدة على الحكم في اليمن إذا ماوقع صالح ونظامه. وكذلك لقرب اليمن من إفريقيا وخصوصا الصومال والتي يحكم في كثير من مناطقها حركة الشباب المجاهدين. ويقوم بالقرصنة على شواطئها مايقال بانه جماعات مرتبطه بالقاعدة. فلو أن على عبدالله صالح سقط قبل إيجاد بديل له في مجلس وطني يمني على غرار مجلس ليبيا الإنتقالي المرحب به غربياً فقد تسيطر القاعدة على جانبي مضيق باب المندب.ناهيك عن عدم رغبة السعودية بأن يحدث تحول ديموقراطي في ساحتها الخلفية يكون مصدر إلهام للشباب السعودي.

وبالعودة الى فلسطين فإن مبدأ الحماية مطبق بطريقة خارجة أي منطق فهي تعني حماية إسرائيل من أي مسائلة قانونية فيما يتعلق بتهديدها للأمن والسلام العالمييين أو فيما يتعلق بانتهاكها لحقوق الإنسان الفلسطيني وكذلك لانتهاكها إتفاقية جنيف 1949 والتي تلزم اسرائيل كقوة إحتلال بإحترام حقوق الشعب المحتل وتأمين وتوفير سبل العيش له. وهذا عكس ماتفعله إسرائيل منذ إحتلالها للضفة وغزة وبالأخص في غزة منذ فرض الحصار عام 2007 وخنق مقومات الحياة بشكل ممنهج هناك ضمن سياسة معلنه تعتمد العقاب الجماعي. فمنظمة العفو الدولية والصليب الأحمر الدولي وهيومان رايتس واتش جميعها تعتبر الحصار الإسرائيلي خرقاً للقانون الدولي لحقوق الانسان.

هناك الكثير من التشكيك في صدقية تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية لأنه خاضع لحسابات المصالح السياسيه والاقتصادية للدول العظمى. وهناك الكثير من الإنتقادات للتدخل الغربي تحت هذه الذريعه في الدول المضطربه بسبب تجارب مريره مثل العراق وأفغانستان على الرغم من الفروق بين هاتين الدولتين وماحصل في ليبيا. ففي العراق وأفغانستان كان التدخل أمريكيا وإحتلاليا أما في ليبيا فقد كان أقرب إلى روح المبدأ برغم الكثير من الشوائب. وهناك إزدواجية واضحة في تفعيل المبدأ عندما يتعلق الأمر بإسرائيل المتمتعة بحصانة لاتنتهي. فعندما راسلت شخصياً التحالف الدولي لمسؤولية الحماية وهي منظمة تنضوي تحتها مؤسسات المجتمع المدني العالمية المعنية بحقوق الإنسان وسألتهم مالذي يمكن إعتباره عملاً ممنهجاً ضد الفلسطينيين حتى يتم توفير الحماية لسكان غزة جائني الرد بأن التعقيدات السياسية التي تتعلق بإسرائيل وسيادتها تحول دون تفعيل هذا المبدأ. أي أن حقوق الإنسان الفلسطيني مهدورة في مقابل مصالح إسرائيل.

لكن مع كل هذه الإنتقادات التي توجه إلى مبدأ مسؤولية الحماية من معلقين وسياسيين غربيين وعرب إلا أن أحداً لم يأت ببديل فاعل لهذا المبدأ. ولعل بداية البحث عن بديل لايجب أن تنظر الى المبدأ نفسه ولكن إلى الحاضنه ومن خلال إنهاء سيطرة الدول العظمي على مجلس الأمن ودمقرطة آلية صنع القرار فيه حتى لاتتغلب مصالح الدول الرأسمالية في نزاعها على الموارد فيما بينها على حقوق الإنسان وحمايته من القمع والقتل في بلداننا. وبذلك يتم إنهاء الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل في مجلس الأمن. وكذلك فمن الممكن إيجاد بديل عربي أو إسلامي لحلف الناتوللتعامل مع الأوضاع العربية الناشئة لتجنب حساسية التدخل الغربي. فالتغيرات التي تشهدها منطقتنا تفتح الباب على كل الإحتمالات وما لم يكن بالحسبان يصبح ممكناً. فنرى الآن قطر تقود العمليات في ليبيا ومعها الأردن والإمارات. فلماذا لايُفعل دور هذه الدول في اليمن وسوريا لحماية حقوق الانسان. ولماذا لايفعل دورهم بالتحالف مع تركيا للتعامل مع الملف الفلسطيني وخصوصاً في رفع حصار غزة.

Tuesday, October 18, 2011

في التحول الديموقراطي العربي





"هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" لعل هذه المقولة قيلت لتصف لحظة تاريخية تونسية كان قمتها سقوط زين العابدين بن علي، الا أنها أيضا تعبر عن لحظة تاريخية لاتقل أهمية وهي بداية التحول الديموقراطي ليس في تونس وحدها ولكن في دول الثورات العربية ماثار منها ومن مازال ينتظر. وهي كذلك تؤشر الى إرتباط الوقت المطول وبداية المسير المضني نحو الديموقراطية.

وفي البداية يجب التاكيد بأن الديموقراطية هي ليست نهاية المطاف الذي تسعى اليه الشعوب. لان الديموقراطية هي حالة مستمره من التطور المتفاعل . والديموقراطية تعبر عن تصور الشعوب لشكل المستقبل الذي ترغب فيه. وبما ان هذا التصور يحوي متطلبات وآمال ورؤى متجدده فبذلك تكون الديموقراطية في تغير و تجدد وتوسع على مستويين :عامودي يشمل البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأفقي يستوعب مطالب جديده ويرسم حدودا لايمكن التراجع عنها.

فعلى سبيل المثال نجد بأن الديموقراطيات المستقرة في الغرب تشهد دائما وعلى نحو مستمر عمليات تفاعل بين شبكات المصالح و النخب السياسية والمشرعين ومؤسسات المجتمع المدني حول التقدم والتراجع الديموقراطي. وعلية فليس هناك حالة من الديموقراطية المكتمله.بل هو مد وجزر ديموقراطي. ولكن لايجب ان يفهم من ذلك بان الديموقراطيات الغربية تتجه نحو الديكتاتوريه انما هي قضية حريات يتم التطاول عليها فتشكل ضررا للبنية الديموقراطية. ولو أخذنا الولايات المتحدة مثلا للديموقراطيه – بصرف النظرعن خلافية المضمون – نجد بأن التشريعات التي تبيح استخدام التعذيب على معتقلي غوانتنامو قد أثارت معارك بين منظمات حقوق الانسان والحكومة الامريكية، حيث اعتبرت هذه التشريعات هجوما على قيم الديموقراطية. وكذلك هو الحال في تشريعات أوروبا من خلال تعاملها مع المهاجرين والغجروالتضييق عليهم ونبذهم وهو مايتعارض مع قيم الحرية واحارم حقوق الانسان. ولعل أوضح مثال للتعدي على الحريات والديموقراطية هي حادثة إعتقال الشيخ رائد صلاح في بريطانيا والتي استنفرت قوى الدفاع عن الحريات والديموقراطية الى أن إنتصرت قضيتها.

وهنا يجدر التنبة بأن التحول الديموقراطي هو بداية الطريق في صراع مرير بين القوى التي ترغب بالعودة الى عصر الديكتاتورية وبين القوى الثائرة والتي تناضل من اجل العبور نحو الديموقراطية المستقره والتي قد تتطلب سنين طويلة. ففي الثورات السلمية كما في تونس ومصر تعيد الأطراف التي إنخرطت بعملية التحول الديموقراطي سواء أكانت ضده أو معه الى إنتاج نفسها وأدواتها. فمن ناحية تتشكل شبكات مصالح مرتبطة بالنظام تتحرك داخل بنية الدولة القائمة وخارجها بشكل يتأقلم مع الوضع الجديد ويحافظ على مصالحها أو من خلال الاستفاده من أي هيكليات قائمة لتبطئ أو تعكس عملية التحول الديموقراطي. وبنظرة سريعة الى مصر كحالة متقدمة في الربيع العربي نجد بأن الحزب الوطني قد اعاد تشكيل نفسه من خلال إيجاد أحزاب جديده مستفيدا من شبكة مصالح قائمة من اكثر من ثلاثين عاما. أو بالنظر الى المؤسسة العسكرية نجد بان النظام يستفيد من المؤسسة العسكرية والتي كانت موالية للنظام من اجل عرقلة وعكس حالة التحول الديموقراطي. ومن ناحية اخرى نجد ان القوى الشبابية والسياسية تعيد أيضا إنتاج نفسها على شكل أحزاب سياسية ومؤسسات وقوى مجتمع مدني. وبين هذه وتلك تبقى حالة من الصراع هي أهم مايسبغ مرحلة التحول الديموقراطي. فكما هو واضح في مصر أعاد المجلس العسكري تفعيل قانون الطواري والى وقت قريب كانت حكومة شرف تحاكم المدنيين أمام محاكم عسكرية. في حين تم صياغة القانون الانتخابي بما يلائم قوى الحزب الوطني المنحل ويكفل سيطرتهم. في المقابل نجد ان قوى الثورة تلجأ لأداتها المميزة وهي النزول للشارع من أجل المضي في عملية التحول الديموقراطي.

في حين يرى الكثير من المنظرين أن الدول التي قامت فيها ثورات مسلحه للاطاحة بالديكتاتور لاينتج عنها الا حكما ديكتوريا آخر و أمراء حرب يتصارعون على المصالح والثروات. وهذا هو الوضع المقلق بشأن ليبيا حيث تظهر بين الفينة والاخرى بوادر صراعات قد تشتعل فور القضاء نهائيا على القذافي. فالمجلس الانتقالي لايحظى باجماع الليبيين خصوصا الغرب الليبي. وثوار مصراته يرفضون الانصياع للقيادة العسكرية الثورية بالانسحاب من طرابلس وبلحاج لايثق بالمكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي. إننا أمام مشروع حرب اهلية ليبية تنتظر شرارة الاشتعال. لذلك قد يبدو من السخرية بأن يتمنى البعض ان تطول مرحلة مطاردة القذافي علها تؤجل المصير المحتوم لحرب اهلية. وكذلك الامر في سوريا فبسبب طول فترة الاحتجاجات وشراسة النظام في التعامل مع المتظاهرين بدأت الانشقاقات في الجيش تظهر قبل الانشقاقات في بنية الدولة في شقها المدني السياسي. حيث أنه لو أستمرت هذه الانشقاقات فقد يتم عسكرة الثورة السورية وقد يؤدي الى تفسخ سورية جغرافيا وعرقيا وطائفيا. فكلنا نعلم بأن للاكراد مطامح وطنية مشروعة قد تتحول الى مطالب بالانفصال. أما التفسخ الطائفي فهو مابين مسلمين ومسيحيين وعلويين قد يشبة مايحصل في العراق أو قد ينتهي الى ماانتهى اليه الوضع في لبنان من محاصصة طائفية على المستوى السياسي وتفسخ بين الطوائف على المستوى الاجتماعي.

ولعله من المجدي التذكير بأن التحول الديموقراطي في أفضل صوره كما حصل في السبعينيات في أسبانيا واليونان مثلا أو أمريكا اللاتينية كان يبدأ من النخبة السياسية الحاكمة التي كانت تدرك بأن تكلفة الإستمرار في الديكتاتورية أعلى من تكلفة التحول الى الديموقراطية. لكن يبدو أن هذه التجارب بالنسبة لزعمائنا مفرطة بالطوباوية ولايمكن تطبيقها إلا في عصور الرومانسية. فلو أن حكاماً من مثل بشار الاسد وعلي عبدالله صالح تعلموا من دروس التاريخ في بلدانهم التي حدثت لطغاة سبقوهم ومن تجارب حدثت أمامهم لزعماء مخلوعين أومطاردين لما أوصلو بلدانهم الى هذا الحال من الصراع وامكانية التشظي.

فكما أسلفت أعلاه إن التحول الديموقراطي هو عملية مطولة تنطوي على صراعات مريره ونكسات متعددة تتوجب من القوى الساعية الى الدمقرطة ان تتمتع بطول نفس وقدرة على ملائمة بنيتها مع متطلبات كل مرحلة من مراحل التحول. فمثلاً في بريطانيا تتطلب الأمر أكثر من مائتي عام حتى أستقرت أسس الديموقراطية وتعمقت الى أن وصلت الى الشكل الذي نراه. لذلك تبرزهنا أهمية ان تتشكل أحزاب سياسية ونقابات وقوى مجتمع مدني تدفع باتجاه تعميق وتجذير الديموقراطية. فلايمكن الاعتماد على حركة الشعوب غير المنظمة في مرحلة التحول الديموقراطي. وهنا تقفز الى الذهن مرة اخرى مصر كحالة فريده حيث كان الاعتماد في البداية على حركة الشعب العفوية والتي وصلت الى حد الانفجار ولكن بعد سقوط الديكتاتور وابتداء مرحلة التحول الديموقراطي بدأ الاعتماد ينصب اكثر على الاحزاب السياسية الوطنية والاسلامية والتجمعات الشبابية من اجل الحشد لمظاهرات ألفية او مليونية. فالادوات تتغير حتى تكفل استمرار عملية التحول والوقوف امام أية محاولة للنكوص عن الديموقراطية.

ويبقى الرجاء من ان تكون العبرة لزعماء آخرين تغلي بلدانهم على فوهة بركان ينتظر الانفجار. فعليهم ان يحسبوا تكلفة الاستمرار في أسلوب الحكم الحالي وتكلفة إدخال إصلاحات ديموقراطية مقرونة باصلاحات اقتصادية تلبي طموحات شعوبهم. وهذا عمليا يتطلب تغيرا في قيم النخب الحاكمة من حيث قبول الأخر والاستعداد للتعاون والتفاوض مع جميع مكونات المجتمع وتحولا في استراتيجية حكمهم القائم على تقليص المخاطر المحيقة بعروشهم ليصبح مقياس الخطرهو الاستمرار بالسياسيات الحالية وتجنب تعميقها عن طريق الخوض في دماء الشعوب. والتغير القيمي عند النخب الحاكمة يتجلى في قبولهم بان الديموقراطية هي "اللعبة الوحيدة المقبوله" فعلى هذه النخب ان تدرك بأن اللحظة التاريخية قد جاءت وان الابواب قد فتحت فأما أن يعبروأ من الباب ويقبلوا مطالب شعوبهم واما أن تكون تكاليف التحول الديموقراطي مرتفعة.